المَبحَثُ الأوَّلُ: هولُ القَبْرِ وظُلْمَتُه
رَوى هانِئٌ مولَى عُثمانَ بْنَ عَفَّانَ قال: ((كانَ عُثمانُ رَضيَ اللَّه عَنه إذا وقَف على قَبرٍ بكَى، حَتَّى يَبُلَّ لِحْيتَه، فقيلَ لَه: تَذْكُرُ الجَنةَ والنَّارَ فلا تَبكي، وتَبكي من هَذا؟ فقال: إنَّ رَسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: إنَّ القَبرَ أوَّلُ مَنزِلٍ من مَنازِلِ الآخِرةِ، فإنْ نَجا مِنه فما بَعدَه أيسَرُ مِنه، وإن لَم يَنجُ مِنه فما بَعدَه أشَدُّ مِنه، قال: وقال رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما رأيتُ مَنظَرًا قَطُّ إلَّا والقَبرُ أفظَعُ مِنه )) .
قال المظهَريُّ: ( ((إذا وقَف على قَبرٍ)) أي: على رأسِ قَبرٍ، أو عِندَ قَبرٍ ((يبكي حَتَّى يَبُلَّ لِحيَتَه)) مِنَ الدَّمعِ، ((فقيلَ لَه: تَذْكُرُ الجَنةَ والنَّارَ ولا تَبكي))، يعني: تَسمَعُ ذِكرَ الجَنَّةِ والنَّارِ ولا تَبكي من خَوفِ النَّارِ واشتياقِ الجَنةِ، ((وتَبكي مِن)) خَوفِ القَبرِ؟!
قَولُه: ((أوَّلُ مَنزِلٍ من مَنازِلِ الآخِرةِ)) يعني: لِلآخِرةِ مَنازِلُ، أوَّلُها القَبرُ، ومِنها عَرصةُ القيامةِ عِندَ العَرْضِ، ومِنها الوُقوفُ عِندَ الميزانِ، ومِنها المُرورُ على الصِّراطِ، ومِنها الجَنةُ والنَّارُ.
((فإنْ نَجَا)) أي: فإنْ نَجا الرَّجُلُ في القَبرِ مِنَ العَذابِ تَكونُ نَجاتُه عَلامةَ السَّعادةِ.
((فما بَعدَه)) أي: فما بَعدَ القَبرِ من أحوالِ القيامةِ تَكونُ أيسَرَ وأسهَلَ عليه.
((وإنْ لَم يَنجُ)) مِنَ العَذاب في القَبرِ يَكونُ عَذابُه في القَبرِ عَلامةَ الشَّقَاوةِ، فيَكونُ ما بَعدَ القَبرِ من أحوالِ القيامةِ أشَدَّ وأشَقَّ عليه، يعني: قال عُثمانُ: لِأجلِ هَذا أبكي من خَوفِ القَبرِ، فما أدري: أنجو من عَذابِ القَبرِ حَتَّى يَكونَ ما بَعدَه أيسَرَ عليَّ أم لا أنجو مِنه حَتَّى يَكونَ ما بَعدَه أشَدَّ عليَّ!) .
وقال الطِّيبيُّ: (قَولُه: ((إلَّا والقَبرُ)) الواوُ لِلحالِ، والاستِثناءُ مُفَرَّغٌ، أي: ما رأيتَ مَنظَرًا وهو ذو هَولٍ وفظاعةٍ ((إلَّا والقَبرُ أفظَعُ مِنه))... فظيعٌ، أيْ: شَديدٌ شَنيعٌ جاوَزَ المِقدارَ) .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ المَسْجِدَ، أَوْ شَابًّا، فَفَقَدَهَا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَسَأَلَ عَنْهَا، أَوْ عنْه، فَقالوا: مَاتَ، قالَ: ((أَفلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي قالَ: فَكَأنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا، أَوْ أَمْرَهُ، فَقالَ: دُلُّونِي علَى قَبْرِهِ فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قالَ: إنَّ هذِه القُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً علَى أَهْلِهَا، وإنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لهمْ بصَلَاتي عليه)) .
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في دُعائِه لأبي سَلَمةَ عندَ مَوتِه: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَبِي سَلَمَةَ وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ )) .
قال ابنُ عُثَيمين: ( ((ونَوِّرْ له فيه)) لأنَّ القَبْرَ ظُلمةٌ إلَّا مَن نَوَّرَه اللهُ عليه، نوَّرَ اللهُ قُبورَنا وقُبورَكم) .
وقَد رُويَ عَن أبي أمامةَ الباهليِّ أنَّه قال: (يا أيُّها النَّاسُ، أصبَحتُم وأمسيتُم في مَنزِلٍ تَقتَسِمونَ فيه الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ، وتُوشِكونَ أن تَظْعَنوا مِنه إلَى مَنزِلٍ آخَرَ، وهو هَذا -فيُشيرُ إلَى القَبرِ- بَيتِ الوَحْدةِ، وبَيتِ الظُّلْمةِ، وبَيتِ الدُّودِ، وبَيتِ الضِّيقُ، إلَّا ما وَسَّعَ اللَّهُ، ثُمَّ تَنتَقِلونَ مِنه إلَى مَواطِنِ يَومِ القيامةِ) .
وقالتِ امرأةُ هِشامٍ الدَّستوائيِّ: إن كانَ إذا طُفِئَ السِّراجُ غَشِيَهُ من ذلك أمرٌ عَظيمٌ! فقُلت لَه: إنَّه ليَغشاكَ عِندَ هَذا المِصباحِ إذا طُفِئَ، قال: إنِّي أذكُرُ ظُلْمةَ القَبرِ .
وقال مُحَمَّدُ بْنُ حَربٍ المَكيُّ: قَدِمَ علينا أبو عَبدِ الرَّحمَنِ العُمريُّ العابدُ واجتَمَعنا إلَيه وأتاه وُجوهُ أهلِ مَكةَ، قال فرَفعَ رأسَه، فلَمَّا نَظَرَ إلَى القُصورِ المُحْدِقةِ بالكَعبةِ فإذا بأعلَى صَوتِه: يا أصحابَ القُصورِ المُشَيَّدةِ اذكُروا ظُلْمةَ القُبورِ الموحِشةِ، يا أهلَ التَّنَعُّمِ والتَّلَذُّذِ اذكُروا الدُّودَ والصَّديدَ وبِلَى الأجسامِ في التُّرابِ. قال ثُمَّ: غَلَبَته عَيْناه فقامَ .
(1) أخرجه الترمذي (2308)، وابن ماجه (4267) واللَّفظُ لهما، وعبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (454) باختلاف يسير. حسَّنه ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (4/192)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2308)، وصحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (7942)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (1/225)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (454).
Referensi: https://dorar.net/aqeeda/1712/المبحث-الأول-هول-القبر-وظلمته
(2) يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (1/ 233).
(3) يُنظر: ((شرح المشكاة)) (2/ 597).
(4) أخرجه البخاري (458)، ومسلم (956) واللَّفظُ له.
(5) أخرجه مسلم (920).
(6) يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (4/ 213).
(7) يُنظر: ((الزهد)) لابن المبارك (2/ 108).
(8) يُنظر: ((القبور)) لابن أبي الدنيا (ص: 92).
(9) يُنظر: ((القبور)) لابن أبي الدنيا (ص: 150).
اللهم اغفر لمن فارقونا إلى القبور وأنزل عليهم الضياء والنور والفسحة والسرور
Komentar0